كان عرب ما قبل الإسلام، أي فترة الجاهلية، كما يحلو للإسلاميين وصف تلك الفترة من تاريخ العرب، قوماً مرفوعي الرؤوس يأنفون عن الخضوع لغيرهم ويحمون استقلالهم بسيوفهم. وقد تصادف في تلك الفترة أن زار عثمان بن الحويرث، أحد الأحناف، قيصر الروم الذي توجه ملكاً وولاه أمر مكة. ولما رجع عثمان إلى مكة وأخبرهم بأمر تعيينه ملكاً عليهم، أنفوا من أن يدينوا لملك، وصاح الأسود بن أسد بن عبد العزى قائلاً: (ألا إنّ مكةَ حيّ لقاح لا تدين لملك) فلم يتم لعثمان ما أرد ورجع إلى الشام حيث مات مسموماً (السيرة النبوية لابن هشام، ج2، ص54). فإذا كان هذا حال العرب في تلك الأيام، فما الذي حدث لهم حتى أصبحوا يدينون بالولاء للقاصي والداني من العسكر والملوك والأمراء؟
لا بد أن الذي مرّغ أنوفهم في التراب وعلمهم الخضوع كان فتح مكة في العام الثامن الهجري. فعندما اقترب محمد وجيشه من مكة ذهب أبو سفيان بن حرب، زعيم قريش لمقابلته ومحاولة تجديد الصلح، فقال له العباس بن عبد المطلب: ويحك أسلم قبل أن تُدق عنقك. فأسلم ورجع إلى مكة فصاح فيهم : ( يا معشرَ قُريش ؛ هذا محمد قد جاءكم فيما لا قِبَلَ لكم به، فمَن دخل دارَ أبى سفيان، فهو آمن، فقامت إليه هندُ بنتُ عتبة ، فأخذت بشَاربه، فقالت: اقتلُوا الحَميت الدسم، الأحْمَشَ السَّاقين ، قُبِّح مِن طَلِيعَةِ قوم. قال: ويلكم، لا تغرَّنَّكُم هذه مِن أنفسكم، فإنه قد جاءكم بما لا قِبَلَ لكم به) (زاد المعاد لابن القيم الجوزية، ج3، ص 216). فهند بنت عتبة زوجة أبي سفيان عرفت أن زوجها الصنديد الذي لا يهاب الحروب قد كُسرت شوكته ولم يعد ذلك الرجل الذي عرفته.
أدخل الدين الجديد عامل التعذيب، فأباح النبي تعذيب الأعراب الذين استاقوا إبله بعد أن قتلوا الراعي (قَدِمَ رَهْطٌ من عُرَيْنَةَ وَعُكَل على النَّبىِّ صلى الله عليه وسلم، فاجْتَوَوا المدينة، فشكوا ذلك إلى النَّبىِّ صلى الله عليه وسلم، فقال لو خرجُتم إلى إِبِل الصدقة فشربتم من أبوالها وألبانها، ففعلوا، فلما صحُّوا، عمدوا إلى الرُّعَاةِ فقتلُوهم، واستاقُوا الإبل، وحاربُوا الله ورسوله، فبعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فى آثارهم، فأُخِذُوا، فَقَطَعَ أيديَهُم، وأرجُلَهُم، وسَمَلَ أعْيُنَهُم، وألقاهم فى الشمس حتى ماتوا) (الطب النبوي لابن القيم، ص 52). وعذب كذلك كنانة بن الربيع الذي كان يحفظ كنز بني النضير فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير ابن العوام ، فقال : عذِّبه حتى تستأصل ما عنده ، فكان الزبير يقدح بزَنْدٍ في صدره ، حتى أشرف على الموت ، ثم دفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى محمد بن مَسْلَمة، فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة (السيرة النبوية لابن هشام، ج4، ص 307). فأصبح التعذيب من سياسة الدولة الإسلامية حتى أن ابن القيم قال في قصة الكنز هذه: ( وفيها دليل على جواز تعزيرِ المتهم بالعُقُوبة، وأن ذلك مِن السياسات الشرعية، فإنَّ الله سبحانه كان قادراً على أن يَدُلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على موضع الكنز بطريق الوحى، ولكن أراد أن يَسُنَّ لِلأُمَّةِ عقوبةَ المتهمين، ويُوسِّعَ لهم طُرُقَ الأحكام رحمة بهم، وتيسيراً لهم ) (زاد المعاد، ج3، ص 6. فأصبح التعذيب رحمةً للمسلمين وسنةً من سنن الشريعة.
[1]
مزارع الخصيان
وجاءت الدولة الأموية فرسّخت في الناس التعذيب وقطع الرؤوس وحملها على الرماح أو إرسالها إلى الخليفة في الشام حتى يعرضها على الملأ. وكمثال لذلك نذكر قصة يزيد بن عبد الملك عندما عزل عبد الرحمن الضحاك عن ولاية المدينة لأن الضحاك كان قد خطب فاطمة بنت الحسين بن علي بعد موت زوجها، ولما سمع يزيد بذلك قال: (: لقد اجترأ ابن الضحاك هل من رجل يسمعني صوته في العذاب ؟ وأنا على فراشي؟ قيل له : عبد الواحد بن عبد الله النضري، فدعا بقرطاس فكتب بيده إلى عبد الواحد: قد وليتك المدينة فاهبط إليها واعزل عنها ابن الضحاك وغرمه أربعين ألف دينار وعذبه حتى أسمع صوته وأنا على فراشي) (الكامل في التاريخ للمبرد، ج4 ص 6). وعذّب عبد الواحد عبد الرحمن بن الضحاك وصادر أمواله فاضطر ابن الضحاك أن يلبس الصوف ويسأل الناس.
وأصبح التعذيب والقتل يحدث لأبسط الأسباب، فمثلاً عندما كان مالك بن المنذر والياً على العراق في خلافة يزيد بن عبد الملك، وكانت ثورة الخوارج في أوجها، أبلى عمر بن يزيد الأسيدي في قتال الخوارج، فقال الخليفة يزيد بن عبد الملك: هذا رجل العراق. فاغتاظ مالك بن المنذر من ذلك وظل يتربص الفرص ليفتك بعمر بن يزيد. وفي يوم اجتمعا معاً فذكر مالك بن المنذر عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر فافترى عليه ، فقال له عمر بن يزيد: لا تفتر على مثل عبد الأعلى. فاغلظ له مالك وضربه بالسياط حتى قتله. (نفس المصدر، ص 26). وطبعاً لم يكن هناك من يسأل مالك بن المنذر لماذا قتل ذلك القائد لأن التعذيب أصبح سنةً شرعية.
وعندما مات يزيد وتولى الخلافة أخوه هشام بن عبد الملك كان الوالي على خراسان الجنيد بن عبد الرحمن. ولما تزوج الجنيد الفاضلة بنت يزيد بن المهلب، غضب الخليفة هشام وعزله وولى بدلاً منه عاصم بن عبد الله بن يزيد الهلالي وقال له: إن وجدت الجنيد على قيد الحياة فازهق روحه. ولما وصل عاصم إلى خرسان كان الجنيد قد مات وتولى مكانه ابن عمه عمارة بن حريم. فأخذ عاصم عمارة هذا وعذّبه وعذّب معه كل عمال الجنيد بالأقاليم (نفس المصدر ص 53). وفي عام مائة وسبعة عشر عندما بدأ الناس يدعون لبني العباس، أخذ أسد بن عبد الله جماعة من دعاة بني العباس بخراسان فقتل بعضهم ، ومثل ببعضهم وحبس بعضهم وكان فيمن أخذ سليمان بن كثير ومالك بن الهيثم وموسى بن كعب. فدعا موسى بن كعب وألجمه بلجام حمار وجذب اللجام فحطمت أسنانه ودق وجهه وأنفه (نفس المصدر ص 53). كل هذا لأنهم أظهروا عدم الرضى بالنظام القائم.
وفي نفس الوقت بالغ الخلفاء الأمويون ومن بعدهم العباسيون في جمع الخراج والزكاة حتى أفقروا شعوبهم وأذلوهم عن طريق الضرب والتعذيب. يقول أبو يوسف، قاضي بغداد في عهد الرشيد، في وصف جباة الخراج: " فإنه بلغني أنهم يقيمون أهل الخراج في الشمس ويضربونهم الضرب الشديد ويعلقون عليهم الجرار ويقيدونهم بما يمنعهم من الصلاة، وهذا عظيم عند الله شنيع في الاسلام) (أبو يوسف، كتاب الخراج، نقلاً عن وعاظ السلاطين لعلي الوردي، ص 42). فكانت السياسة هي تعذيب الناس وتحقير قادتهم حتى تنكسر الروح العربية التي جعلت أهل مكة يرفضون أن يكون عثمان بن الحويرث ملكاً عليهم.
وأصبح الدين حقيقةً أفيون العرب الذي يخدرهم ويساعدهم على تحمل العذاب والتنكيل ويبرر لهم الخنوع والخضوع لحكامهم. ولكن رغم هذا القمع ظلت هناك جذوة من الشهامة في العربي فقام بعضهم بالثورات على الخلفاء الأمويين والعباسيين، و لكن مُنيّت كل هذه الثورات بالفشل والتنكيل بالثوار لأن المتسلقين والمنتفعين بأموال السلطان كانوا أكثر من الثائرين. وجاءت الطامة الكبرى مع آل عثمان عندما احتلوا العالم العربي باسم الخلافة العثمانية فأدخلوا الخازوق إلى تلك البلاد وقضوا على آخر جذوة من الرجولة في العربي. فلم تقم ثورات على الحكم التركي، رغم فظاعته، إلا ما ندر مثل ثورة المهدي في السودان.